Pages

Subscribe:

Labels

Senin, 19 September 2016

تحقيق معنى "ملة " والفرق بينها وبين "الدين"

هذا البحث في بيان المعنى الدقيق لـكلمة ملة في القرآن لاستجلاء اللطائف البلاغية في مواقع استعمالها :

أقوال العلماء في اشتقاق الملة :
الملة :الدين والسنة والطريقة المسلوكة هذا معناها بشكل عام [1]، واختلف العلماء في اشتقاق لفظ الملة على أربعة أقوال :
القول الأول : قالوا الملة : سميت بذلك تشبيها بالطريق الحسي المسلوك كثيرا مدة طويلة حتى صار علما .

، يقال طريقٌ مُمَلٌّ: أي: أثَّر فيه المَشْيُ،[2]، قال الزمخشري في الأساس: "وطريق مملّ: معمل سلكوه كثيراً وأطالوا الاختلاف عليه، ومنه: أملّ عليه الملوان: طال اختلافهما عليه ـ ـ ومنه: الملّة الطريقة المسلوكة"
قال ابن سيده : وطَرِيقٌ مَلِيْلٌ وَمُمِلٌّ قد سُلِكَ فيه حتَّى صَارَ مَعْلَمًا
قال الزجاج : والملة في اللغة : السنة والطريقه"
وهي مجموع عقائد وأعمال يلتزمها طائفة من الناس ويدومون عليها مدة طويلة تكون جامعة لهم كطريقة يتبعونها
ممن اختار هذا القول : الزجاج و البغوي وابن عطية والثعالبي والسمين الحلبي وسيد طنطاوي والصابوني وأجازه أبو حيان
القول الثاني : الاشتقاق من أمللت مأخوذ من الإملاء أي إملاء الكتاب ليكتب ؛لأن الشريعة تبتنى على متلو ومسموع ، وفيها مَن يُمْلي ويُمْلَى عليه، فسميت الشريعة والسنة المتبعة والدين ـ ملة من حيث إنها تملى وتبين للناس لأن الرسول أو واضع الدين يعلمها للناس ويمللها عليهم .

قال ابن عاشور :و مِلَّةِ فعلة بمعنى المفعول، أي المملول، من أمللت الكتاب إذا لقنت الكاتب ما يكتب
اختار هذا ابن الهائم والراغب وابن عاشور والماوردي والمظهري ودروزة وهميان الزاد والآلوسي وأجازه أبو حيان
القول الثالث :سميت ملة لما فيها من تكرر قالوا والأصل فيه تكرر الأمر ، من قولهم : طريق مُمَل ومليل ، إذا تكرر سلوكه حتى توطأ و صار معلماً . ومنه الملل : تكرار الشيء على النفس حتى تضجر منه [3] .

اختاره : الطبرسي والطوسي والقاسمي والجشمي
القول الرابع : قالوا أصله من المليلة: وهي حُمَّى تلحق الإنسان ، فالملة مذهب جماعة يَحْمَى بعضها لبعض في الديانة أي يغضب وينتصر ، ومنه الملة بالفتح موضع النار، وذلك أنه إذا دُفن اللحم وغيره تكرر عليه الحمي حتى ينضج
الرماني ونقله البقاعي في موضع .
القول الخامس : اصل الملَّة فِي الْعَرَبيَّة الملّ وَهُوَ أَن يعدو الذِّئْب على شَيْء ضربا من الْعَدو فسميت الملة مِلَّة لاستمرار أَهلهَا عَلَيْهَا قال أبو الهلال العسكري في الفروق
الترجيح :

الراجح : أن الملة مجموع عقائد وأعمال تلتزم كثيرا وتكرر مدة طويلة ويطول العمل بها عملا ممتدا ، وتملى وتقلب من جيل إلى جيل ، سميت بذلك باعتبار أنها تملى وتنقل طويلا وتكرر من جيل إلى جيل وتكون لهم طريقة يتبعونها بالتكرار طويلا .

وفي المادة بكل تصرفاتها معنى الطول والتكرر ويدل على ذلك تصريفات الكلمة وتقلباتها وأقوال العلماء
وإليك تصريفات المادة وتقليباتها وأقوال العلماء :
· قالوا أمللت الكتاب إذا لقنت الكاتب ما يكتب وكررت وأطلت قال ابن الجوزي : قال شيخنا أبو منصور اللغوي: يقال: أمللت أمل، وأمليت أملي لغتان: فأمليت من الإملاء وأمللت من الملل والملال، لأن الممل يطيل قوله على الكاتب ويكرره.
· وطريق مملّ: معمل سلكوه كثيراً وأطالوا الاختلاف عليه، ومنه: أملّ عليه الملوان: طال اختلافهما عليه ومنه: الملّة الطريقة المسلوكة، ومنها: ملّة إبراهيم خير الملل.
· المُلالُ : التَّقَلُّبُ مرَضاً أَو غَمّاً.
·تَمَلَّلَ الرَّجُلُ وتَمَلْمَلَ : تقلَّبَ ، من مرضٍ أَو نحوِهِ كأَنَّه على مَلَّةٍ وتَمَلْمَلَ اللَّحْمُ عَلَى النَّارِ اضطَرَبَ
·مَمْلولَةُ الصَّوتِ ، فَعيلَةٌ بمعنى مَفعولَة ، يصِفُها بكَثرَةِ الكلامِ ورفعِ الصَّوتِ حتّى تُمِلَّ السّامعينَ
·وقال أَبو زيدٍ : أَمَلَّ فلان على فُلانٍ : إذا شَقَّ عليه وأَكثرَ في الطَّلَبِ .
· وبَعيرٌ مُمَلٌّ : أُكْثِرَ رُكوبُه حتّى أَدْبَرَ
· ومنه الملل : تكرار الشيء على النفس حتى تضجر منه .
·والملمول المكحال يهيئ ويسني أخذ الكحل وهو ممتد
· وململة الفيل يتناول بها وهي ممتدة
·وكامتداد زمن بقاء الخبز في الملة لينضج أي يتهيأ للأكل
·ومن ذلك حديث الاستسقاء فأرسل الله السحاب فملتنا أي أمطرتنا مدة طويلة
ومما يساعدنا في تحقيق معنى كلمة الملة الآيات التي تشترك مع كلمة الملة في الاشتقاق بأنواعه :
· وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا
· واهجرني مليا قال الآلوسي :" مَلِيّاً أي دهراً وزمانا طويلاً قال الآلوسي : وأصله على ما قيل من الإملاء أي الإمداد وكذا الملاوة بتثليث الميم وهي بمعناه ومن ذلك الملوان الليل والنهار".
· وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25)
·
فتبين بهذه النقولات أن كل الأقوال الثلاثة الأولى صحيحه وأنه لا منافاة بينها ومن تأمل استعمالات الكلمة وجد أن كلا من هذه الأقوال قد اقتصر على جانب مما تدل عليه الكلمة ولا تعارض بينها أما القول الأخير فهو يرجع لما ذكرناه من الأقوال الثلاثة لا سيما القول الثالث وأما القول الرابع فغير ظاهر
ويؤيد ما رجحته قول الطبري في تفسير قوله تعالى واتَّبع ملة إبراهيم حنيفًا"، يعني بذلك: واتبع الدين الذي كان عليه إبراهيم خليل الرحمن، وأمر به بنيه من بعده وأوصاهم به ".
وقول الطبرسي :" و اتبع ملة إبراهيم » أي اقتدى بدينه و سيرته و طريقته يعني ما كان عليه إبراهيم و أمر به بنيه من بعده و أوصاهم به من الإقرار بتوحيده و عدله و تنزيهه عما لا يليق به و من ذلك الصلاة إلى الكعبة و الطواف حولها و سائر المناسك ".
وقول الآلوسي : والملة في الأصل اسم من أمللت الكتاب بمعنى أمليته كما قال الراغب، ومنه طريق ملول- أي مسلوك معلوم- كما نقله الأزهري ثم نقلت إلى أصول الشرائع باعتبار أنها يمليها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يختلف الأنبياء فيها [4].
الآيات التي فيها ملة مع ذكر بعض أسرار استعمالها :


وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
مَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ
معنى "ملة إبراهيم" : يفسره قوله تعالى في سورة النحل إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
أي اقتد بدينه و سيرته و طريقته التي دام عليها وكررها فكانت طريقة مسلوكة وسنة له و أمر به بنيه من بعده و أوصاهم به وتناقلوه جيلا بعد جيل وتكرر حتى صار طريقا مسلوكا ومعلما من الإقرار بتوحيده والقنوت له وشكره ، و تنزيهه عما لا يليق به فالإضافة إليه لأنه اتبعها فكانت له طريقا ولأنه سنها وأمر بها .[5]
يؤيده إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
وبهذا البيان يظهر سر استعمال ملة إبراهيم وما فيها من الترغيب في سلوكها
ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)
السر في استعمال الملة هنا أنهم يقولون :هذه عقائدنا وأعمالنا التي التزمت طويلا كثيرا ومدة طويلة وتكرر العمل بها عملا ممتدا وأخذت عن الآباء جيلا عن جيل وكانت لنا مسلوكة فيجب أن ترجعوا إليها لأنها الأحق بالاتباع لما ذكر

ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـ
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا
السر في استعمال الملة : أنهم يقولون أو يعيدوكم في دينهم الباطل الذي توارثوه وهم مستمرون عليه وهو طريقتهم التي لا يقلعون عنها ، فهم لن يرضوا منكم إلا الرجوع إليه فهو أنسب تعبير يناسب يرجموكم أو يعيدوكم وهو كالتعليل لفعلهم وكذلك آية لن ترضى ، بخلاف ما لو عبر بالدين فلا يفيد هذا لأن الدين يفيد أنهم خاضعون له منقادون فقط ويدل عليه قل إن هدى الله هو الهدى حيث بين أن هدى الله هو الهدى الوحيد لا ملتهم مما يشعر أنهم في دعائهم للناس يزعمون أن عندهم الهدى فيجب أن يتبع وأن شيء لهذا استعمال الملة [6]
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ
مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)
الأصح أن المراد بالملة الآخرة : ملة قريش التي أدركوا عليها أباءهم أي ما أدركنا عليه آباءنا واستمروا عليها وتناقلوها و ، وما وجدوا عليه أسلافَهم من الضلالة . وهو قول مجاهد وقتادة وابن زيد والبيضاوي والبقاعي
قال مجاهد : أرادوا ملتهم ونحلتهم التي العرب عليها ، فيعلم أن انتفاءه في ملتهم الأولى بالأحرى .
قال بعض العلماء :قوله تعالى : ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق : أرادوا بالملة الآخرة المذهب الذي تداوله الآخرون من الأمم المعاصرين لهم أو المقارنين لعصرهم قبال الملل الأولى التي تداولها الأولون كأنهم يقولون : ليس هذا من الملة الآخرة التي يرتضيها أهل الدنيا اليوم بل من أساطير الأولين .
و قيل : المراد بالملة الآخرة النصرانية لأنها آخر الملل وهم لا يقولون بالتوحيد بل بالتثليت ، و ضعفه ظاهر




ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ
إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
في التعبير بالملة إقناع لهما على ترك ملتهما لأن الذي يدعوهما إلى التمسك بالكفر أنه دين الآباء وطريقتهم المتكررة التي داموا عليها طويلا فهو كأنه يقول هذا ليس لا يدعوكم إلى البقاء عليه فأنا تركت ملة القوم الذين لا يؤمنون مع أنها دامت طويلا واستمرت وتكررت وصارت طريقة مسلوكة وتوارثها الناس وتناقلوها وتوجد ما يقابلها من ملة أبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب
ومعنى الترك هنا : أني برئت من ملة من لا يصدّق بالله ، ويقرّ بوحدانيته وليس معناها أنه كان فيها ثم تركها حاشاه فالأنبياء معصومون من هذا
قال أبو حيان : والظاهر أن قوله : إني تركت ، استئناف إخبار بما هو عليه ، إذ كانا قد أحباه وكلفا بحبه وبحسن أخلاقه ، ليعلمهما ما هو عليه من مخالفة قومهما فيتبعاه .
وفي الحديث : « لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم » وعبر بتركت مع أنه لم يتشبث بتلك الملة قط ، إجراء للترك مجرى التجنب من أول حالة ، واستجلاباً لهما لأن يتركا تلك الملة التي كانا فيها .
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــــ
الفرق بين الدين والملة :
اتضح مما سبق معنى الملة أما الدين : فيطلق باعتبار الخضوع والانقياد له والطواعية لأن أصل مادة دين هو الخضوع والانقياد لبرنامج أو مقررات قال ابن فارس : أصل واحد إليه يرجع فروعه كلها وهو جنس نم الانقياد والذل .
ويدل على ذلك الآيات التي وردت منها
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ
وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ
وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
دلت الآيات على أن حقيقة الدين التسليم والخضوع والانقياد لأحكام الله تعالى وإذا تأملت سر استعمال الدين في قوله تعالى مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ فلم يقل قانون الملك حتى يبين أنه قانون صارم لا يمكن مخالفته والكل منقادون له خاضعون كما تدل عليه لام الجحود والتعبير بالدين فلذلك لما أراد أخذ أخيه عامل إخوته على قانونهم هم ، إضافة إلى أن جزاء السارق في قانون الملك غير هذا الحكم .[7]








[1]سيأتي ذكر معناها الدقيق بعد ذكر الأقوال .

[2] وقريب منه قول التحقيق : " الملة بمعنى الدين فالكلمة على فعلة وتدل على نوع من التضيق والمحدودية والعيش تحت مقررات مضبوطة فالملة تطلق بلحاظ دلالتها على التضيق والمحدودية كما أن الدين هو الخضوع والانقياد تحت برنامج معين والملة تطلق على الحق والباطل" .

[3] ومما له صلة بالموضوع قول زاد المسير : أمليت من الإملاء لأن الممل يطيل قوله على الكاتب ويكرر وقريب منه ما قاله المعجم الاشتقاقي :والمعنى المحوري تهيؤ أو تهيئة بالامتداد للانتفاع والصلاح الأساسي كالطريق الموصوف وهو ممتد ومهيأ والخياطة الأولى تهيئ للخياطة الدائمة فهي باقية والملمول المكحال يهيئ ويسني أخذ الكحل وهو ممتد وململة الفيل يتناول بها وهي ممتدة وكامتداد زمن بقاء الخبز في الملة لينضج أي يتهيأ للأكل والمليل ممتد ومن ذلك حديث الاستسقاء فأرسل الله السحاب فملتنا أي أمطرتنا مدة طويلة ومنه الملة : الشريعة والدين شريعة تمد ويزود بها لإصلاح حال الخلق ومآلهم دائما ومنه أمل الشيء : قاله فكتب والنقل بالإملاء امتداد ، والكتابة تهيئ حفظ الحقوق فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ومنه الملل : أن تمل شيئا وتعرض عنه من طول الأمر




[5] هذه بعض كلام العلماء في شرح معنى ملة إبراهيم في هذه الآية وفي غيرها : قال أبو حيان ولما وصف إبراهيم بتلك الأوصاف الشريفة أمر نبيه أن يتبع ملته ، وهذا الأمر من جملة الحسنة التي آتاها الله إبراهيم في الدنيا . البقاعي: ولما قرر من عظمته في الدنيا والآخرة ما هو داعٍ إلى اتباعه ، صرح بالأمر به تنبيهاً على زيادة عظمته بأمر متباعد في الرتبة على سائر النعوت التي أثنى عليه بها ، وذلك كونه صار مقتدي لأفضل ولد آدم ، مشيراً إلى ذلك بحرف التراخي الدال على علو رتبته بعلو رتبة من أمر باتباعه فيما مهده مما أمر به من التوحيد والطريق الواضح السهل فقال سبحانه : ثم أوحينا ، أي : ثم زدناه تعظيماً وجلالة بأن أوحينا إليك وأنت أشرف الخلق ، وفسر الإيحاء بقوله ترغيباً في تلقي هذا الوحي أحسن التلقي باقتفاء الأب الأعظم : أن اتبع ، أي : بغاية جهدك ونهاية همتك .
ولما كان المراد أصل الدين ، وحسن الاقتضاء فيه بسهولة الانقياد ، والانسلاخ من كل باطل ، والدعوة بالرفق مع الصبر ، وتكرير الإيراد للدلائل وكل ما يدعوا إليه العقل الصرف والفطرة السليمة ، عبر بالملة فقال تعالى : ملة إبراهيم ، ولا بعد في أن يفهم ذلك الهجرة أيضاً .
البيضاوي - 685هـ : أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا في التوحيد والدعوة إليه بالرفق ، وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى ، والمجادلة مع كل أحد على حسب فهمه قال المنار : وَقَدْ تَحَقَّقَتْ إِمَامَتُهُ لِلنَّاسِ بِدَعْوَتِهِ إِيَّاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ - وَكَانَتِ الْوَثَنِيَّةُ قَدْ عَمَّتْهُمْ وَأَحَاطَتْ بِهِمْ - فَقَامَ عَلَى عَهْدِهِ بِالْحَنِيفِيَّةِ وَهِيَ الْإِيْمَانُ بِتَوْحِيدِ اللهِ وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ وَإِثْبَاتُ الرِّسَالَةِ، وَتَسَلْسَلَ ذَلِكَ فِي ذُرِّيَّتِهِ خَاصَّةً، فَلَمْ يَنْقَطِعْ مِنْهَا دِينُ التَّوْحِيدِ؛ وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللهُ الْإِسْلَامَ بِأَنَّهُ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ.وقال المنار : مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أَيْ بَلْ نَتَّبِعُ أَوِ اتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي لَا نِزَاعَ فِي هُدَاهُ وَلَا فِي هَدْيِهِ، فَهِيَ الْمِلَّةُ الْحَنِيفِيَّةُ الْقَائِمَةُ عَلَى الْجَادَّةِ بِلَا انْحِرَافٍ وَلَا زَيْغٍ، الْعَرِيقَةُ فِي التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ بِلَا وَثَنِيَّةٍ وَلَا شِرْكٍ." قال أبو زهرة : (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) أي اتبعوا منهاجه وشرعته وطريقته، وقد كان طريقه هو طريق الفطرة السليمة، ولذلك وصفه بقوله " حنيفا "
ومن العلماء من اقتصر على قوله ملة إبراهيم طريقته وسنته ومثلها وجعلها كلمة باقية في عقبه ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب



[6] يضاف إلى ذلك ما ذكره الآلوسي بقوله : " وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم أي آراءهم الزائغة المنحرفة عن الحق الصادرة عنهم بتبعية شهوات أنفسهم وهي التي عبر عنها فيما قبل بالملة وكان الظاهر ولئن اتبعتها إلا أنه غير النظم ووضع الظاهر موضع المضمر من غير لفظه إيذاناً بأنهم غيروا ما شرعه الله سبحانه تغييراً أخرجوه به عن موضوعه ، وفي صيغة الجمع إشارة إلى كثرة الاختلاف بينهم وأن بعضهم يكفر بعضاً"ويضاف إليه قول بعض العلماء :" حتى تتبع ملتهم التي ابتدعوها بأهوائهم ونظموها بآرائهم ثم أمره بالرد عليهم بقوله : قل إن هدى الله هو الهدى أي إن الاتباع إنما هو لغرض الهدى ولا هدى إلا هدى الله والحق الذي يجب أن يتبع وغيره - وهو ملتكم - ليس بالهدى ، فهي أهواؤكم ألبستموها لباس الدين وسميتموها باسم الملة ، ففي قوله : قل إن هدى الله إلخ ، جعل الهدى كناية عن القرآن النازل ، ثم أضيف إلى الله فأفاد صحة الحصر في قوله : إن هدى الله هو الهدى ، على طريق قصر القلب ، وأفاد ذلك خلو ملتهم عن الهدى ، وأفاد ذلك كونها أهواء لهم ، واستلزم ذلك كون ما عند النبي علما ، وكون ما عندهم جهلا ، واتسع المكان لتعقيب الكلام بقوله : ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ، ما لك من الله من ولي ولا نصير ، فانظر إلى ما في هذا الكلام من أصول البرهان العريقة ، ووجوه البلاغة على إيجازه ، وسلاسة البيان وصفائه .


[7] و من الفروق بين الدين والملة ما ذكره ا الراغب والعسكري : أن الملة لا تطلق إلا على جملة الشريعة بخلاف الدين قال العسكري في الفروق : الفرق بين الملة والدين: أن الملة اسم لجملة الشريعة، والدين اسم لما عليه كل واحد من أهلها ألا ترى أنه يقال فلان حسن الدين ولا يقال حسن الملة وإنما يقال هو من أهل الملة قال الراغب:: والفرق بينها وبين الدين أن الملة لا تضاف إلا إلى النبي عليه الصلاة والسلام الذي تسند إليه. نحو: فاتبعوا ملة إبراهيم [آل عمران/95]، واتبعت ملة آبائي [يوسف/38] ولا تكاد توجد مضافة إلى الله، ولا إلى آحاد أمة النبي ، ولا تستعمل إلا في جملة الشرائع دون آحادها، لا يقال: ملة الله، ولا يقال: ملتي وملة زيد كما يقال: دين الله ودين زيد، ولا يقال: الصلاة ملة الله.

0 komentar:

Posting Komentar